29 - 06 - 2024

إيقاع مختلف | القابضون على الجمر

إيقاع مختلف | القابضون على الجمر

(أرشيف المشهد)

21-10-2011 | 15:09

بحثت داخلى عن رد فعل مناسب فلم أجد إلا هذه الابتسامة التى لا معنى لها فرسمتها على وجهى بهدوء شديد ... بل إننى رفعت يدى بالتحية أيضا وكأنى أؤيد الرأى الذى يطرحه من أمامى بطريقة تصورت بعد ذلك أنها يمكن أن تكون مستفزة ..كان هذا فى واحدة من المرات التى خرجت فيها من مبنى الإذاعة والتليفزيون لأجد نفسى وجها لوجه أمام مئات من المتظاهرين الذين يشيرون إلى وإلى بقية الزملاء الخارجين من المبنى وهم يرددون (الإعلام الفاشل أهو).

كنت متيقنا أنهم يملكون الكثير من الحق، لأنهم يقينا لا يعرفون حجم المعاناة التى يتعرض لها الإعلاميون الشرفاء من أجل أن يجدوا لصوتهم الحقيقى منفذا ليصل إلى الناس، ولا حجم العبء النفسى الذى يقع على عاتقهم وهم يرون أنفسهم كالجياد الأصيلة المكبوحة المقيدة التى تمنع من الاشتراك فى المضمار على الرغم من ثقتها المطلقة بأن مكانها الحقيقى فى المقدمة.

تداخلت فى نفسى مشاعر شتى وأنا أرى أولئك الذين يشيرون إلى وإلى بقية زملائي بأصابع الاتهام ويرفعون أصواتهم بكلماتهم التى يفترض أن تكون جارحة شديدة الوطأة على العقل والقلب معا، وتساءلت: لماذا لا أشعر بالحنق عليهم أو الثورة والغضب مما يصنعون؟؟ هل ذلك نوع من التعاطف مع موقفهم؟ أم نوع من الإقرار بصحة منطقهم؟ أم نوع من البرود الانفعالى الذى تولد عن اعتياد الكبح والجمح وتعطيل القدرات؟

كيف يمكن لى أن أشرح جانبا من هذه المعاناة التى يعانيها الإعلاميون دون أن أتورط فى لون من النرجسية ودون أن أقع فى شرك الحديث عن الذات؟

هل أستطيع مثلا أن أتذكر ذلك الموقف الذى هددتنى فيه رئيسة الإذاعة بأننى أعرض  نفسى للفصل قبل الثورة بعدة أشهر  لمجرد أنى عرضت كتاب (تاريخنا المفترى عليه) للشيخ يوسف القرضاوى وتساءلت كيف يمكن أن نرفع سقف الحرية داخل هذا المبنى العريق صاحب الأمجاد التى لا تنسى ... هل أستطيع أن أتذكر ذلك  دون أن يوقعنى هذا فى منطقة ادعاء البطولة؟

وهل يمكننى أن أعود بالذاكرة إلى ما هو أقدم من ذلك بكثير فأذكر كيف رُفعت سهرتى الإذاعية من على الهواء ليلة دخول القوات الأمريكية إلى العراق لأننى افتتحتها بسطور شعرية تقول:

ومتى نغضب إن لم يكن الآن الآن؟!

كيف سنجلس للأبناء

وكيف سننظر فى أعينهم

كيف ستجترىء العينان

لن يسترنا ثوب الشعر

ولن يعصمنا جبل الخطب من الطوفان

فمتى نغضب

إن لم يكن الآن الآن؟!

أقول: هل يمكننى أن أفعل ذلك دون أن أخلق لدى قارئى إحساسا بأن أحاول أن أتحدث عن (أمجادى) الإذاعية الثورية... وأن يصدق أننى إنما أحاول فقط أن أطلعه على جانب مما يعانيه الإذاعى من أجل أن يقول كلمة الحق فى وقتها تماما.

ربما يقنعه بذلك أن أقول له إن ما فعلته أنا وما تعرضت له أنا لا يكاد يذكر إلى جوار من تعرض له كثيرون من أولئك الإذاعيين الذين أبوا إلا أن يقبضوا على جمر الحقيقة وأن يقولوا كلمة الحق فى وجه كل التحديات وألا يقنعوا مثلى بالشعار الذى كنت أتبناه فى أشد الأوقات حلكة حين كنت أقول: إذا لم أستطع أن أقول ما أريد فعلى الأقل ألزم نفسى بألا أقول ما لا أريد وما لا أصدق وما لا أقتنع به.

هل من المناسب هنا أن أذكر إذاعيين من أمثال شفيع شلبى ورجب حسن وجلال السيد ومنى غانم كأمثلة لأولئك الإذاعيين الذين لا يقلون ثورية أبدا عن هؤلاء الواقفين أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون يهتفون (الإعلام الفاشل أهو ) فى وجه الجميع.

أذكر الآن أنى حين قدر لى أن أكون وسط مئات الآلاف من الثائرين فى ميدان التحرير فى المليونية الأولى التى عبرت عن نفسها فى الثلاثاء الثانى لم أبق بالميدان لأكثر من ساعتين اثنتين لأننى شعرت ساعتها أن ميدان التحرير هو آمن مكان فى مصر لأنك وسط بحر من البشر كلهم يقولون ما تقول ويحسون ما تحس وهو شعور آمن كثيرا مما كنت أشعر به وأنا أذيع قصائدى المتوالية عن الثورة (الفاتحة، ما لم يقله أبو العلاء، الأربعاء الأسود) فى وقت كان النظام مازال قائما صامدا.

السؤال المهم الذى لابد من الإجابة عليه ما الذى يدعونى إلى ذكر هذا كله الآن؟

والإجابة البسيطة الواضحة: أنى أشعر أن من الواجب على أن أكتب هذه الكلمات على ميادين مصر تشعر بأن داخل هذا المبنى الذى يحملونه كثيرا من مسئوليات التقصير رجالا لا يقل إحساسهم بالوطن وثورتهم من أجله عن إحساس ثائرى الميادين ... وخاصة أنهم  يخوضون الآن معركتهم الخاصة من أجل إشاعة لون من العدالة الاجتماعية داخل المبنى ذاته، وهى معركة مليئة بالكر والفر، وتستحق أن تكلل بالنجاح لا من أجل إصلاح أوضاعهم المادية أو الاجتماعية فحسب بل ومن أجل تحقيق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص ورفع الظلم والقهر فى شتى صوره المادية والمعنوية وإصلاح خلل بين فى البناء الداخلى للمبنى الذى توضع فى رقبته مسئولية النهوض بالأمة.

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة





اعلان